!
بقلم/ سعيد الخولي
باريس والخيبة الثقيلة.. هكذا كتبت سابقا معلقا على جيش الفئران المكون من ستة ملايين فأر من الحجم القططي تمرح في عاصمة الجن والملائكة، كما سماها الدكتور طه حسين رحمه الله، يسميها أغلب العالم عاصمة النور، وكلا المسميين رهين مبرره لدى أصحابه: أما الدكتور طه حسين فما سمعه ببصيرته ورآه بأذنيه وهو في بعثته هناك في بلد الجمال والسحر والشعر والعلم، ولأنه كان يتعرف على العالم بأذنيه منذ الصغر وقد كان لعالم الجن والعفاريت ركن في خياله، فقد جمع ذكريات الجن مع واقع الملائكة الذي لمسه في قرينة عمره سوزان التي أحبته وهي تعايش نفاذ بصيرته، وأحبها بإنسانيتها ورقة الملائكة في حدبها عليه وطبعها معه.
كتبت عن خيبة باريس الثقيلة إزاء فشل مقاومة فئرانها المتوحشة واضطرارها من خلال عمدتها لعمل بروتوكول تعايش سلمي بين ناسها وفئرانها، وقد بلغ نصيب كل باريسي قرابة ثلاثة فئران عليه أن يتعايش معها أو يرضخ لها، وهي تمرح في مياه السين ومجاري صرف مدينة النور.
ولم أكن أعلم وأنا أكتب عن خيبة باريس الثقيلة أن بعثتنا الرياضية الأضخم في تاريخنا الأوليمبي وبين بقية بعثات الدول المشاركة في الأوليمبياد- لم أكن أعلم- أن هذه البعثة ستفوز بأكبر قدر من الخيبة بين البعثات، وأن خيبتها ستكون بالويبة والفضائح على كل شكل ولون وفي كل الألعاب، إلا لاعبا كسر صمت الميداليات- حتى كتابة هذه السطور- ليفوز بيتيمة برونزية، عزف لأجلها السلام الوطني المصري مرة واحدة كلفت ميزانية الدولة المنهكة أكثر من مليار وبعض مليار جنيه، قياسا إلى مليار وبعض مليار دولار تكلفتها فرنسا للتخلص من الفئران دون جدوى، لتكون نتيجتها «خيبة بالويبة» ولا بأس من استعراض مناسبة هذا المثل الذي تتعدد صوره في الفلكلور المصري من عينة «خيبة الأمل راكبة جمل» و«الناس خيبتها سبت وحد وإحنا خيبتنا ما وردت على حد».
لكن يبقى «خيبة بالويبة» في حاجة لتعريف سريع به، فالويبة أولا هي نوع من المكاييل في الزمن المصري القديم كان يعادل حوالي أربعة وعشرين كيلو جراما، وكان يُكال به القمح وقت اعتماد مصر على الزراعة وحدها، وفي عهد الخليفة المأمون بلغ سعر هذه الويبة ربع دينار، وكان هذا الثمن قمة الغلاء وقتها بعد فرض الضرائب المجحفة على المزارعين والجزية، وكان جامع الضرائب لا يرحم الناس وهو يجمع الضريبة، ومن هنا كان مثل «اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع» يقصدون جامع الضرائب وليس الجامع بمعنى المسجد، وتحولت مواجهات المصريين مع رجال المأمون إلى معركة انتصر فيها المصريون البسطاء على جيش الخليفة في معارك سميت في كتب التاريخ «ثورة البشموريين» نسبة لأهالي «بشمور» التي كانت تقع بين دمياط ورشيد، ولم يجد المأمون بدا من قيادة الجيش بنفسه إلى مصر وتمكن بالرشاوي والخيانة والقوة الغاشمة من هزيمة الثوار والقضاء على الثورة، التي قامت بسبب غلاء «الويبة» وانتهت بـ«الخيبة»، ليصير المثل من وقتها على سبيل التهكم الحزين «خيبة بالويبة».
ونعود لخيبة باريس التي تجللت بها مسيرة أكبر بعثة رياضية أوليمبية في تاريخ مصر وبين بقية البعثات، وتعددت صور الفشل؛ ليس فقط في عدد الميداليات التي تحققت، بل أيضا فيما صاحب هذا الفشل من فضائح رياضية أقساها هزيمة تاريخية أمام المغرب الشقيق في كرة القدم بسداسية مخجلة وهزيمة أبطال اللعبات الفردية في المصارعة وغيرها بعدم التكافؤ، ناهيك عن نكتة وزن بطلة رفع الأثقال الفسيولوجية وبطلة السلاح الحامل، حتى زادت عليها فضيحة أخلاقية لبطل المصارعة الذي لم يجد لهزيمته وخروجه صفر اليدين من بطولة حاز عنها ميدالية منذ ثلاث سنوات، لم يجد حلا لنسيانها سوى التواجد في مكان مشبوه بين المخمورين والسكارى ليتم القبض عليه واتهامه بالتحرش، ليلوث سمعة مصر بعد خيبة الأمل فيه.
كل هذه الخيبة بالويبة في باريس لا بد أن تهز الوزارة المسؤولة عن تلك الاتحادات وعن اللجنة الأوليمبية؛ وأظن أن وزارة الشباب والرياضة واحدة من أكثر الوزارات عبئا على ميزانية الدولة دون نتائج توازي ميزانيات الإنفاق على الشباب والرياضة، والأوفق أن نسميها وزارة الإنفاق والسياحة، فلعلها من أكثر الوزارات تدليلا لكبارها ومنتسبيها ولاعبي اللعبات والأنشطة التي تنفق عليها، فالكبار وكثير من المنتسبين وعشرات من اللاعبين فاقوا رحلات ابن بطوطة بما قاموا به من سفريات وفسح وتجوال في بلاد الله التي ما كان لأحدهم أن يصلها ولو رأى «حلمة ودنه» طبقا للمثل العامي الذي بالطبع يستبعد أن يرى بسلامته حلمة ودنه من خلال مرآة.
أربع سنوات عجاف ليس فيهن إلا الإنفاق من لحم الحي، يوفرون النفقات من احتياجات البطون الجائعة للطعام لتنفق على مزاج أنفس جائعة للتصفيق والتهليل والسياحة والمهيصة بدعوى المنافسات ورفع راية مصر في المحافل الدولية، وعلى هوامش هؤلاء الجائعين أقلام وألسنة وكلمات أكثر جوعا للحاق بمواكب السفريات أو على الأقل لعق بعض من كعكة السفريات والفسح والاستمتاع بالقدود الساحرة والوجوه الفاتنة هناك في بلاد الغرب والشرق وكل أركان المعمورة.
ولا جديد مع كل دورة من دورات الأوليمبياد؛ فكل أربعة أعوام تدور نفس الأسطوانة التي لا يعطلها شروخ ولا يوقفها عطب، في زمن تطور الأسطوانات وأشرطة الكاسيت إلى حالة رقمية لا تحتاج لتشغيلها سوى عدة أزرار على الشبكة العنكبوتية، أسطوانة إلغاء التمثيل المشرف والذهاب فقط للحصول على ميداليات بشتى صورها الذهبية والفضية البرونزية، وأننا سوف نحقق عددا من الميداليات يبهر المصريين ويُحلّق برؤوسهم في أعلى قمم الفخار والمجد، أسطوانة للضحك على الذقون وتخدير المضحوك عليهم بانتظار وقوف أبطالنا على منصات التتويج وعزف السلام الوطني ورفرفة علم مصر خفاقا مع كل تكريم أو ميدالية يعشمون بها الناس، وكأن بعثتنا في كل مرة ستعود بكمية من الميداليات الذهبية تكفي لتشغيل حى الصاغة، وكمية من الميداليات الفضية تكفي لمعامل تشكيل المسبوكات الفضية في بر مصر، وكذا البرونز، ويستعد حى الصاغة لشراء الميداليات، وليتمخض الجبل هذه الدورة في باريس فيلد فأرا وبرونزية يتيمة، ألم أقل لكم إنها «خيبة بالويبة»؟.
………
نقلا عن “المصري اليوم”